فصل: فصــل: في قاعدة ما ترك من واجب وفعل من محرم قبل الإسلام والتوبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


كتاب الفقــه

الجـزء الثانـي

 الصـــلاة

بسم الله الرحمن الرحيم

 سئل ـ رحمه الله‏:‏

هل كانت الصلاة على من قبلنا من الأمم مثل ما هي علينا من الوجوب والأوقات والأفعال والهيئات‏.‏ أم لا‏؟‏

فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏

كانت لهم صلاة في هذه الأوقات، لكن ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات، وغيرهما، والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل يفسق ويشرب الخمر ويصلي الصلوات الخمس، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل صلاة لم تنه عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد صاحبها من الله إلا بعدًا‏)‏‏.‏

فأجاب‏:‏

هذا الحديث ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه‏.‏ وبكل /حال، فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدا‏.‏ بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلي الله منه، وإن كان فاسقًا‏.‏

لكن قال ابن عباس‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها‏)‏، حتى قال‏:‏ ‏(‏إلا عشرها‏)‏‏.‏ فإن الصلاة إذا أتي بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم تنهه دل على تضييعه لحقوقها، وإن كان مطيعًا‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ‏}‏ الآية ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وإضاعتها التفريط في واجباتها وإن كان يصليها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن قوله تعالي‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَي‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ والرجل إذا شرب الخمر وصلي وهو سكران، هل تجوز صلاته أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

صلاة السكران الذي لا يعلم ما يقول لا تجوز باتفاق، بل ولا يجوز أن يُمَكَّن من دخول المسجد لهذه الآية وغيرها، فإن النهي عن قربان الصلاة، وقربان مواضع الصلاة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏

 فصــل

في قاعدة ما ترك من واجب وفعل من محرم قبل الإسلام والتوبة

قاعدة ما تركه الكافر الأصلي من واجب ـ كالصلاة والزكاة والصيام ـ فإنه لا يجب عليه قضاؤه بعد الإسلام بالإجماع؛ لأنه لم يعتقد وجوبه، سواء كانت الرسالة قد بلغته أو لم تكن بلغته، وسواء كان كفره جحودًا، أو عنادًا، أو جهلاً‏.‏

ولا فرق في هذا بين الذمي والحربي، بخلاف ما على الذمي من الحقوق التي أوجبت الذمة أداءها ـ كقضاء الدين، ورد الأمانات والغصوب ـ فإن هذه لا تسقط بالإسلام؛ لالتزامه وجوبها قبل الإسلام‏.‏

وأمـا الحـربي المحض، فلـم يلتزم وجـوب شيء للمسلمـين، لا مـن العبادات ولا مـن الحقوق، فليس عليه قضاء شيء لا من حقوق الله ، ولا من حقوق المسلمين، وإن كان يعاقب على تركها لو لم يسلم، فإن الإسلام يهدم ما كان قبله‏.‏

/وكذلك ما فعله الكافر من المحرمات في دين الإسلام التي يستحلها في دينه ـ كالعقود والقبوض الفاسدة، كعقد الربا، والميسر، وبيع الخمر والخنزير، والنكاح بلا ولي ولا شهود، وقبض مال المسلمين بالقهر، والاستيلاء، ونحو ذلك ـ فإن ذلك المحرم يسقط حكمه بالإسلام، ويبقي في حقه بمنزلة ما لم يحرم، فإن الإسلام يغفر له به تحريم ذلك العقد والقبض، فيصير الفعل في حقه عفوًا بمنزلة من عقد عقدًا أو قبض قبضًا غير محرم، فيجري في حقه مجري الصحيح في حق المسلمين؛ ولهذا ما تقابضوا فيه من العقود الفاسدة أقروا على ملكه إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا‏.‏

وكذلك عقود النكاح التي انقضي سبب فسادها قبل الحكم، والإسلام، بخلاف ما لم يتقابضوه، فإنه لا يجوز لهم بعد الإسلام أن يقبضوا قبضًا محرمًا، كما لا يعقدون عقدًا محرمًا، وهذا مقرر في موضعه‏.‏ لقوله تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏278‏]‏، فأمرهم بترك ما بقي في الذمم من الربا، ولم يأمرهم برد المقبوض‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أسلم على شيء فهو له‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏وأيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام‏)‏، وأقر أهل الجاهلية على مناكحهم التي كانت في الجاهلية، مع أن كثيرًا منها كان غير مباح في الإسلام‏.‏

/وهذا كالمتفق عليه بين الأئمة المشهورين‏.‏ لكن ثَم خلاف شاذ في بعض صوره‏.‏

وأما ما استولي عليه أهل الحرب من أموال المسلمين ثم أسلموا، فإنه لهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفاق السلف، وجماهير الأئمة، وهو منصوص أحمد، وظاهر مذهبه‏.‏

وأما التحاكم إلينا في مثل هذه الصورة، فإنها تكون إذا كانوا ذوي عهد بأمان أو ذمة أو صلح فنقرهم عليه في هذه الصورة ـ أيضًا ـ فهذا في الحقوق التي وجبت له باعتقاده في كفره، وإن كان سببها محرمًا في دين الإسلام‏.‏

وأما العقوبات، فإنه لا يعاقب على ما فعله قبل الإسلام من محرم، سواء كان يعتقد تحريمه أو لم يعتقده، فلا يعاقب على قتل نفس، ولا ربًا، ولا سرقة، ولا غير ذلك‏.‏ سواء فعل ذلك بالمسلمين، أو بأهل دينه‏.‏ فإنه إن كان بالمسلمين، فهو يعتقد إباحة ذلك منهم، وأما أهل دينه، فهم مباحون في دين الإسلام، وإن اعتقد هو الحظر؛ ولهذا نقول‏:‏ إن ما سباه وغنمه الكفار بعضهم من نفوس بعض وأموالهم، فإنهم لا يعاقبون عليها بعد الإسلام، وإن اعتقدوا التحريم‏.‏ فمتي كان مباحًا في دينه أو في دين الإسلام زالت العقوبة‏.‏

/لكن إن كان محرمًا في الدينين ـ مثل أن يكون بينه وبين قوم عهد ـ فإن كان عهده مع المسلمين، فهذا هو المستأمن والذمي والمصالح، فهؤلاء يضمنون ما أتلفوه للمسلمين من النفوس والأموال، ويعاقبون على ما تعدوا به على المسلمين، ويعاقبون على الزنا، وفي شرب الخمر خلاف معروف‏.‏ وأما إن كان عهدهم مع غير المسلمين مثل قضية المغيرة بن شعبة‏.‏

 فصـــل

فأما المرتد، فلا يجب عليه قضاء ما تركه في الردة من صلاة وزكاة وصيام في المشهور، ولزمه ما تركه قبل الردة في المشهور‏.‏ وقيل‏:‏ يجب عليه القضاء، وقيل‏:‏ لا يجب في الصورتين‏.‏ ويحكي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏ وأما ما فعله من المحرمات‏:‏ فإن كان في قبضة المسلمين، ضَمِنَ ما أتلفه من نفس ومال، وإن كان في طائفة ممتنعة ففيه روايات‏.‏

 فصـــل

وأما المسلم، إذا ترك الواجب قبل بلوغ الحجة، أو متأولًا، مثل من ترك الوضوء من لحوم الإبل، أو مس الذكر، أو صلي في أعطان/الإبل، أو ترك الصلاة جهلًا بوجوبها عليه بعد إسلامه، ونحو ذلك، فهل يجب عليه قضاء هذه الواجبات‏؟‏ على قولين في المذهب‏:‏ تارة تكون رواية منصوصة، وتارة تكون وجها‏.‏

وأصلها أن حكم الخطاب بفروع الشريعة هل يثبت حكمه في حق المسلم قبل بلوغه‏؟‏ على وجهين ذكرهما القاضي أبو يعلي في مصنف مفرد‏.‏ وفيها وجه ثالث اختاره طائفة من الأصحاب، وهو الفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ‏.‏ فلا يثبت النسخ إلا بعد بلوغ الناسخ، بخلاف الخطاب المبتدأ‏.‏ وقد قرروه بالدلائل الكثيرة أنه لا يجب القضاء في هذه الصور كلها، وأنه لا يثبت حكم الخطاب إلا بعد البلاغ جملة، وتفصيلاً‏.‏

ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء لأبي ذر لما مكث مدة لا يصلي مع الجنابة بالتيمم، ولا أمر عمر بن الخطاب في قضية عمار بن ياسر، ولا أمر بإعادة الصوم من أكل حتى يتبين له العقال الأبيض من الأسود، ونظائره متعددة في الشريعة‏.‏

بل إذا عفي للكافر بعد الإسلام عما تركه من الواجبات لعدم الاعتقاد ـ وإن كان الله قد فرضها عليه، وهو معذب على تركها ـ فلأن يعفو للمسلم عما تركه من الواجبات لعدم اعتقاد الوجوب، وهو غير معذبه/على الترك لاجتهاده، أو تقليده، أو جهله الذي يعذر به أولى وأحرى‏.‏ وكما أن الإسلام يجب ما كان قبله، فالتوبة تجب ما كان قبلها، لا سيما توبة المعذور الذي بلغه النص، أو فهمه بعد أن لم يكن تمكن من سمعه وفهمه،وهذا ظاهر جدًا إلى الغاية‏.‏

وكذلك ما فعله من العقود والقبوض التي لم يبلغه تحريمها لجهل يعذر به، أو تأويل‏.‏ فعلى إحدى القولين حكمه فيها هذا الحكم وأولى‏.‏ فإذا عامل معاملة يعتقد جوازها بتأويل‏:‏ من ربا، أو ميسر، أو ثمن خمر، أو نكاح فاسد، أو غير ذلك، ثم تبين له الحق وتاب، أو تحاكم إلينا، أو استفتانا، فإنه يقر على ما قبضه بهذه العقود، ويقر على النكاح الذي مضى مفسده، مثل أن يكون قد تزوج بلا ولي أو بلا شهود معتقدًا جواز ذلك، أو نكح الخامسة في عدة الرابعة، أو نكاح تحليل مختلف فيه، أو غير ذلك، فإنه وإن تبين له فيما بعد فساد النكاح، فإنه يقر عليه‏.‏

أما إذا كان نكح باجتهاد وتبين له الفساد باجتهاد، فهذا مبني على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، لا في الحكم ولا في الفتيا ـ أيضًا ـ فهذا مأخذ آخر‏.‏

وإنما الغرض هنا أنه لو تيقن التحريم بالنص القاطع ـ كتيقن من/كان كافرًا صحة الإسلام ـ فإنا نقره على ما مضى من عقد النكاح، ومن المقبوض في العقد الفاسد، إذا لم يكن المفسد قائمًا‏.‏ كما يقر الكفار بعد الإسلام على مناكحتهم التي كانت محرمة في الإسلام وأولى‏.‏

فإن فعل الواجبات وترك المحرمات باب واحد، كما تقدم في الكافر‏.‏ وهذا بَين؛ فإن العفو والإقرار للمسلم المتأول ـ بعد الرجوع عن تأويله ـ أولى من العفو والإقرار عن الكافر المتأول، لكن في هذا خلاف في المذهب وغيره‏.‏

وشبهة المخالف نظره إلى أن هذا منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد وجعل المسلمين جنسًا واحدًا، ولم يفرق بين المتأول وغيره‏.‏ ونظير هذه المسألة‏:‏ ما أتلفه أهل البغي المتأولون على أهل العدل من النفوس والأموال، هل يضمنون‏؟‏ على روايتين‏:‏

إحداهما‏:‏ يضمنونه، جعلاً لهم كالمحاربين، وكقتال العصبية الذي لا تأويل فيه، وهذا نظير من يجعل العقود والقبوض المتأول فيها بمنزلة ما لا تأويل فيه‏.‏

والثانية‏:‏ لا يضمنونه، وعلى هذا اتفق السلف، كما قال الزهري‏:‏ وقعت الفتنة ـ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ـ فأجمعوا /أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فلا ضمان فيه ـ وفي لفظ ـ‏:‏ ألحقوهم في ذلك بأهل الجاهلية‏.‏

ولهذ لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أسامة دم الذي قتله بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله ؛ لأنه قتله متأولاً‏:‏ أي أنهم ـ وإن استحلوا المحرم ـ لكن لما كانوا جاهلين متأولىن، كانوا بمنزلة أهل الجاهلية في عدم الضمان، وإن فارقوهم في عفو الله ورحمته؛ لأن هذه الأمة عفي لها عن الخطأ والنسيان، بخلاف الكافر؛ فإنه لا يغفر له الكفر الذي أخطأ فيه‏.‏

 فَصْـل

وهذا الذي ذكرته فيما تركه المسلم من واجب، أو فعله من محرم بتأويل اجتهاد أو تقليد، واضح عندي، وحاله فيه أحسن من حال الكافر المتأول‏.‏

وهذا لا يمنع أن أقاتل الباغي المتأول، وأجلد الشارب المتأول، ونحو ذلك‏.‏ فإن التأويل لا يرفع عقوبة الدنيا مطلقًا؛ إذ الغرض بالعقوبة دفع فساد الاعتداء، كما لا يرفع عقوبة الكافر، وإنما الكلام في قضاء ما تركه من واجب، وفي العقود والقبوض التي فعلها بتأويل،/ وفي ضمان النفوس والأموال التي استحلها بتأويل، كما استحل أسامة قتل الذي قتله بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله ، وكذلك لا يعاقب على ما مضي إذا لم يكن فيه زجر عن المستقبل‏.‏

وأما العقوبة للدفع عن المستقبل، كقتال الباغي، وجلد الشارب، فهذه مقصودها أداء الواجب في المستقبل، ودفع المحرم في المستقبل، وهذا لا كلام فيه، فإنه يشرع في مثل هذا عقوبة المتأول في بعض المواضع‏.‏

وإنما الغرض بما يتعلق بالماضي من قضاء واجبه، وترك الحقوق التي حصلت فيه، والعقوبة على ما فعله، فهذه الأمور المتعلقة به من الحدود والحقوق، والعبادات هي التي يجب أن يكون المسلم المتأول أحسن حالاً فيها من الكافر المتأول وأولى‏.‏

فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والمسلم المتأول معذور، ومعه الإسلام الذي تغفر معه الخطايا، والتوبة التي تَجُبّ ما كان قبلها، وفي إيجاب القضاء وإسقاط الحقوق وإقامة العقوبات تنفير عن التوبة، والرجوع إلي الحق أكثر من التنفير بذلك للكافر، فإن أعلام الإسلام ودلالته أعظم من أعلام هذه الفروع، وأدلتها، والداعي إلي الإسلام من سلطان الحجة والقدرة قد يكون أعظم من الداعي إلي هذه الفروع‏.‏

/وهذا لا شبهة فيه عندي، وإن كان فه نزاع؛ فإني أعلم أنه لولا مضي السُّنة بمثل ذلك في حق الكفار، لكان مقتضى هذا القياس عند أصحابه طرده في حق الكافر ـ أيضًا‏.‏ وقد راعى أصحاب أبي حنيفة ذلك في النكاح، فلم يمنعوا منه إلا ما له مساغ في الإسلام، والنزاع لا يهتك حرمة العلم والفقه بعد ظهور حجته‏.‏

 فَصْــل

ولكن النظر في فصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ من ترك الواجب، أو فعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه، ولكن جهلاً وإعراضًا عن طلب العلم الواجب عليه ـ مع تمكنه منه ـ أو أنه سمع إيجاب هذا، وتحريم هذا، ولم يلتزمه إعراضًا لا كفرًا بالرسالة، فهذان نوعان يقعان كثيرًا من ترك طلب العلم الواجب عليه، حتى ترك الواجب وفعل المحرم، غير عالم بوجوبه وتحريمه أو بلغه الخطاب في ذلك، ولم يلتزم اتباعه، تعصبًا لمذهبه‏.‏ أو اتباعًا لهواه، فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي‏.‏ كما ترك الكافر الإسلام‏.‏

فإن الاعتقاد هو الإقرار بالتصديق، والالتزام‏.‏فقد يترك التصديق/والالتزام جميعًا؛ لعدم النظر الموجب للتصديق، وقد يكون مصدقًا بقلبه لكنه غير مقر ولا ملتزم، اتباعًا لهواه، فهل يكون حال هذا إذا تاب وأقر بالوجوب والتحريم تصديقًا والتزامًا، بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها، كما أن الإسلام يجب ما قبله‏؟‏ فهذه الصورة أبعد من التي قبلها، فإن من أوجب القضاء على التارك المتأول، وفسخ العقد والقبض على المتأول المعذور، فعلي هذا المذنب بترك الاعتقاد الواجب أولى‏.‏

وأما على القول الذي قررناه وجزمنا بصحته، فهذا فيه نظر‏.‏ قد يقال‏:‏ هذا عاص ظالم بترك التعلم، والالتزام، فلا يلزم من العفو عن المخطئين في تأويله العفو عن هذا‏.‏

وقد يقال وهو أظهر في الدليل والقياس‏:‏ ليس هذا بأسوأ حال من الكافر المعاند الذي ترك استماع القرآن كبرًا وحسدًا وهوي، أو سمعه وتدبره واستيقنت نفسه أنه حق من عند الله ، ولكن جحد ذلك ظلمًا وعلوًا‏:‏ كحال فرعون، وأكثر أهل الكتاب، والمشركين، الذين لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏.‏

والتوبة كالإسلام، فإن الذي قال‏:‏ ‏(‏الإسلام يهدم ما كان قبله‏)‏ هو الذي قال‏:‏ ‏(‏التوبة تهدم ما كان قبلها‏)‏ وذلك في حديث واحد/ من رواية عمرو بن العاص رواه أحمد ومسلم‏.‏

فإذا كان العفو عن الكافر لأجل ما وجد من الإسلام الماحي، والحسنات يذهبن السيئات، ولأن في عدم العفو تنفير عن الدخول، لما يلزم الداخل فيه من الآصار، والأغلال الموضوعة على لسان هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا المعني موجود في التوبة عن الجهل والظلم، فإن الاعتراف بالحق والرجوع إليه حسنة يمحو الله بها السيئات، وفي عدم العفو تنفير عظيم عن التوبة، وآصار ثقيلة وأغلال عظيمة على التائبين‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يبدل لعبده التائب بدل كل سيئة حسنة‏)‏، على ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فإذا كانت تلك التي تاب منها صارت حسنات، لم يبق في حقه بعد التوبة سيئة أصلاً، فيصير ذلك القبض والعقد من باب المعفو عنه، ويصير ذلك الترك من باب المعفو عنه، فلا يجعل تاركًا لواجب، ولا فاعلاً لمحرم، وبهذا يحصل الجمع بين الأدلة الشرعية‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏)‏‏.‏

واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدًا‏:‏ هل يقضيه‏؟‏/ فقال الأكثرون‏:‏ يقضيه، وقال بعضهم‏:‏ لا يقضيه، ولا يصح فعله بعد وقته كالحج‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها‏:‏ ‏(‏فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏‏.‏

ودل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها‏.‏ ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء، لكن المضيع لوقتها كان ملتزمًا لوجوبها، وإنما ضيع بعض حقوقها وهو الوقت، وأتي بالفعل‏.‏ فأما من لم يعلم وجوبها عليه جهلاً وضلالاً، أو علم الإيجاب ولم يلتزمه، فهذا إن كان كافرًا، فهو مرتد، وفي وجوب القضاء عليه الخلاف المتقدم لكن هذا شبيه بكفر النفاق‏.‏

فالكلام في هذا متصل بالكلام فيمن أقام الصلاة وآتي الزكاة نفاقًا أو رياءً، فإن هذا يجزئه في الظاهر، ولا يقبل منه في الباطن، قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ‏.‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4 ـ 7‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وقـد اختلف أصحابنا في الإمـام إذا أخـذ الزكاة قهـرًا‏:‏ هـل تجـزئـه في الباطـن‏؟‏ على وجهين ـ مع أنها لا تستعاد منه ـ‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تجزيه لعدم النية مع القدرة عليها‏.‏

والثاني‏:‏ أن نية الإمام تقوم مقام نية الممتنع؛ لأن الإمام نائب المسلمين في أداء الحقوق الواجبة عليهم‏.‏ والأول أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذها منهم بإعطائهم إياها، وقد صرح القرآن بنفي قبولها؛ لأنهم ينفقون وهم كارهون‏.‏ فعلم أنه إن أنفق مع كراهة الإنفاق، لم تقبل منه، كمن صلي رياء‏.‏

لكن لو تاب المنافق والمرائي‏:‏ فهل تجب عليه في الباطن الإعادة‏؟‏ أو تنعطف توبته على ما عمله قبل ذلك فيثاب عليه، أو لا يعيد ولا يثاب‏.‏

أما الإعادة فلا تجب على المنافق قطعًا؛ لأنه قد تاب من المنافقين جماعة عن النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وأيضًا، فالمنافق كافر في الباطن، فإذا آمن فقد غفر له ما قد سلف، فلا يجب عليه القضاء، كما لا يجب على الكافر المعلن إذا أسلم‏.‏

وأما ثوابه على ما تقدم مع التوبة‏:‏ فيشبه الكافر إذا عمل صالحًا في كفره، ثم أسلم هل يثاب عليه‏؟‏ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام‏:‏ ‏(‏أسلمت على ما سلف لك من خير‏)‏‏.‏

وأما المرائي إذا تاب من الرياء مع كونه كان يعتقد الوجوب، فهو شبيه بالمسألة التي نتكلم فيها، وهي مسألة من لم يلتزم أداء الواجب ـ وإن لم يكن كافرًا في الباطن ـ ففي إيجاب القضاء عليه تنفير عظيم عن التوبة‏.‏

فإن الرجل قد يعيش مدة طويلة لا يصلي ولا يزكي، وقد لا يصوم ـ أيضًا ـ ولا يبالي من أين كسب المال‏:‏ أمن حلال‏؟‏ أم من حرام‏؟‏ ولا يضبط حدود النكاح والطلاق، وغير ذلك‏.‏ فهو في جاهلية، إلا أنه منتسب إلي الإسلام، فإذا هداه الله وتاب عليه، فإن أوجب عليه قضاء جميع ما تركه من الواجبات، وأمر برد جميع ما/ اكتسبه من الأموال، والخروج عما يحبه من الإبضاع إلي غير ذلك صارت التوبة في حقه عذابًا، وكان الكفر حينئذ أحب إليه من ذلك الإسلام، الذي كان عليه، فإن توبته من الكفر رحمة، وتوبته وهو مسلم عذاب‏.‏

وأعرف طائفة من الصالحين من يتمني أن يكون كافرًا ليسلم فيغفر له ما قد سلف؛ لأن التوبة عنده متعذرة عليه، أو متعسرة على ما قد قيل له واعتقده من التوبة، ثم هذا منفر لأكثر أهل الفسوق عن التوبة، وهو شبيه بالمؤيس للناس من رحمة الله ‏.‏

ووضع الآصار ثقيلة، والأغلال عظيمة على التائبين الذين هم أحباب الله ، فإن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين‏.‏ والله أفرح بتوبة عبده من الواجد لماله بعد قوامه، بعد اليأس منه‏.‏

فينبغي لهذا المقام أن يحرر، فإن كفر الكافر لم يسقط عنه ما تركه من الواجبات، وما فعله من المحرمات، لكون الكافر كان معذورًا، بمنزلة المجتهد فإنه لا يعذر بلا خلاف، وإنما غفر له لأن الإسلام توبة، والتوبة تجب ما قبلها، والتوبة توبة من ترك تصديق وإقرار، وترك عمل وفعل‏.‏ فيشبه ـ والله أْعلم ـ أن يجعل حال هؤلاء في جاهليتهم كحال غيرهم‏.‏

/ فَصْــل

فالأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم‏:‏ الكفر الظاهر، والكفر الباطن، والكفر الأصلي، وكفر الردة، والجهل الذي يعذر به لعدم بلوغ الخطاب، أو لمعارضة تأويل باجتهاد أو تقليد‏.‏

 وَسُئِـلَ عن قوم منتسبين إلي المشائخ يتوبونهم عن قطع الطريق، وقتل النفس، والسرقة، وألزموهم بالصلاة لكونهم يصلون صلاة عادة البادية، فهل تجب إقامة حدود الصلاة أم لا‏؟‏

فأجـاب‏:‏

أما الصلاة فقد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4 ـ 7‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، فقد ذم الله ـ تعالي ـ في كتابه الذين يصلون إذا سهوا عن الصلاة، وذلك على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يؤخرها عن وقتها‏.‏

الثاني‏:‏ ألا يكمل واجباتها‏:‏ من الطهارة، والطمأنينة، والخشوع، وغير ذلك‏.‏ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال‏:‏ ‏(‏تلك صـلاة المنافـق، تلك صـلاة المنافـق، تلك صـلاة المنافق ـ ثلاث مرار ـ يترقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً‏)‏‏.‏

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المنافقين التأخير، وقلة ذكر اسم الله ـ سبحانه ـ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏.‏ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145، 146‏]‏‏.‏

وأما قوله ـ سبحانه وتعالي ـ‏:‏‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏‏[‏مريم‏:‏59‏]‏، فقد قال بعض السلف‏:‏ إضاعتها‏:‏ تأخيرها عن وقتها، وإضاعة حقـوقها، قـالوا‏:‏ وكانوا يصلـون، ولو تركوها لكانوا كفارًا؛ فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر‏)‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا كمل الصلاة، صعدت ولها برهان كبرهان الشمس‏.‏ وتقول‏:‏ حفظك الله كما حفظتني، وإن لم يكملها، فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول ضيعك الله كما ضيعتني‏)‏‏.‏

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها‏)‏ حتى قال‏:‏ ‏(‏إلا عشرها‏)‏، وقال ابن عباس‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏ الذي يشتغل به عن إقامة الصلاة كما أمر الله تعالي رسوله صلى الله عليه وسلم بنوع من أنواع الشهوات‏:‏ كالرقص، والغناء وأمثال ذلك‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ أن رجلاً دخل المسجد فصلي ركعتين، ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام، ارجع/فصل فإنك لم تصل‏)‏ فرجع فصلي ثم أتاه فسلم عليه، فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل‏)‏ مرتين أو ثلاثًا‏.‏ فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أحسن غيرها، فعلمني ما يجزئني في الصلاة، فقال‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلي الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمأن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها‏)‏‏.‏

وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تقبل صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود‏)‏، ‏(‏ونهي عن نقر كنقر الغراب‏)‏‏.‏ ورأى حذيفة رجلاً يصلي لا يتم الركوع والسجود فقال‏:‏ لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم، أو قال‏:‏ لو مات هذا‏.‏ رواه ابن خزيمة في صحيحه‏.‏

 وَسُئِـلَ عمن قال‏:‏ إن الصبيان مأمورون بالصلاة قبل البلوغ، وقال آخر‏:‏ لا نسلم، فقال له‏:‏ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر‏)‏، فقال هذا ما هو أمر من الله، ولم يفهم منه تنقيص، فهل يجب في ذلك شيء‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

/فأجاب‏:‏

إن كان المتكلم أراد أن الله أمرهم بالصلاة، بمعني أنه أوجبها عليهم، فالصواب مع الثاني، وأما إن أراد أنهم مأمورون‏:‏ أي أن الرجال يأمرونهم بها لأمر الله إياهم بالأمر، أو أنها مستحبة في حق الصبيان، فالصواب مع المتكلم‏.‏

وقول القائل‏:‏ ما هو أمر من الله ، إذا أراد به أنه ليس أمرًا من الله للصبيان، بل هو أمر لمن يأمر الصبيان، فقد أصاب‏.‏ وإن أراد أن هذا ليس أمرًا من الله لأحد، فهذا خطأ يجب عليه أن يرجع عنه، ويستغفر الله ‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلي النهار؛ لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة أستاذ، أو غير ذلك‏.‏ فهل يجوز لهم ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجـوز لأحـد أن يؤخر صلاة النهار إلي الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلي النهار لشغل مـن الأشغال، لا لحصـد ولا لحـرث ولا لصناعـة ولا لجنابة، ولا نجاسة ولا صيد ولا لهـو ولا لعب ولا لخـدمـة أسـتاذ، ولا غـير ذلك، بل المسلمون كلهـم متفقـون على أن عليـه أن/ يصـلي الظهر والعصر بالنهار، ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يترك ذلك لصناعـة مـن الصناعات، ولا للهو ولا لغير ذلك من الأشغال‏.‏ وليس للمالك أن يمنع مملوكه، ولا للمستأجر أن يمنع الأجير من الصلاة في وقتها‏.‏

ومن أخرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس، وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت، ألزم بذلك، وإن قال‏:‏ لا أصلي إلا بعد غروب الشمس لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك، فإنه يقتل‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله‏)‏‏.‏ وفي وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ إن لله حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم كان أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفار، ثم صلاها بعد المغرب، فأنزل الله تعالي‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏238‏]‏‏.‏

/وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن الصلاة الوسطى صلاة العصر‏)‏؛ فلهذا قال جمهور العلماء‏:‏ إن ذلك التأخير منسوخ بهذه الآية، فلم يجوزوا تأخير الصلاة حال القتال، بل أوجبوا عليه الصلاة في الوقت حال القتال، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه‏.‏

وعن أحمد رواية أخري أنه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير، ومذهب أبي حنيفة يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت، وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد ـ كصناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك ـ فلا يُجَوِّزه أحد من العلماء، بل قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 5‏]‏، قال طائفة من السلف هم الذين يؤخرونها عن وقتها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هم الذين لا يؤدونها على الوجه المأمور به، وإن صلاها في الوقت فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء، فإن العلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار وتأخير صلاة النهار إلى الليل بمنزلة تأخير صيام شهر رمضان إلى شوال‏.‏

فمن قال‏:‏ أصلى الظهر والعصر بالليل، فهو باتفاق العلماء بمنزلة من قال‏:‏ أفطر شهر رمضان وأصوم شوال، وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة /أو نسيها،فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك‏)‏‏.‏

فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك، بل يصلي في الوقت بحسب حاله، فإن كان محدثًا وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، تيمم وصلى‏.‏ وكذلك الجنب يتيمم ويصلي إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد‏.‏ وكذلك العريان يصلي في الوقت عريانًا، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت في ثيابه‏.‏ وكذلك إذا كان عليه نجاسة لا يقدر أن يزيلها فيصلي في الوقت بحسب حاله‏.‏ وهكذا المريض يصلي على حسب حاله في الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏، فالمريض باتفاق العلماء يصلي في الوقت قاعدًا أو على جنب، إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا‏.‏

وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته، ليس لأحد أن يؤخره عن وقته، ولكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، باتفاق المسلمين‏.‏

وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء، وبين الظهر والعصر/عند كثير من العلماء للسفر والمرض، ونحو ذلك من الأعذار‏.‏

وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل، وتأخير صلاة الليل إلى النهار، فلا يجوز لمرض ولا لسفر، ولا لشغل من الأشغال، ولا لصناعة باتفاق العلماء‏.‏ بل قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر‏.‏ لكن المسافر يصلي ركعتين ليس عليه أن يصلي أربعًا‏.‏ بل الركعتان تجزئ المسافر في سفر القصر، باتفاق العلماء‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه يجب على كل مسافر أن يصلي أربعًا، فهو بمنزلة من قال‏:‏ إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان، وكلاهما ضلال، مخالف لإجماع المسلمين، يستتاب قائله‏.‏ فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ والمسلمون متفقون على أن المسافر إذا صلى الرباعية ركعتين، والفجر ركعتين والمغرب ثلاثًا، وأفطر شهر رمضان وقضاه أجزأه ذلك‏.‏

وأما من صام في السفر شهر رمضان، أو صلى أربعًا، ففيه نزاع مشهور بين العلماء‏:‏ منهم من قال لا يجزئه ذلك، فالمريض له أن يؤخر الصوم باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين، والمسافر له أن يؤخر الصيام باتفاق المسلمين، وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين‏.‏

/وهذا مما يبين أن المحافظة على الصلاة في وقتها أوكد من الصوم في وقته قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏، رواه مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف بك إذا كان عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، وينسؤون الصلاة عن وقتها‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ فماذا تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة‏)‏‏.‏ وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سيكون عليكم أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها‏)‏، وقال رجل‏:‏ أصلى معهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم ـ إن شئت ـ واجعلوها تطوعًا‏)‏ رواه أحمد وأبو داود، ورواه عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف بكم إذا كان عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ فما تأمرني إن أدركني ذلك يارسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏صل الصلاة لوقتها، واجعل صلاتك معهم نافلة‏)‏‏.‏

ولهذا اتفق العلماء على أن الرجل إذا كان عريانًا مثل أن تنكسر/ بهم السفينة أو تسلبه القطاع ثيابـه فإنه يصلي في الوقت عريانًا، والمسافر إذا عدم الماء يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق العلماء، وإن كان يجد الماء بعد الوقت، وكذلك الجنب المسافر إذا عدم الماء تيمم وصلى، ولا إعادة عليه باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏ وكذلك إذا كان البرد شديدًا فخاف إن اغتسل أن يمرض فإنه يتيمم ويصلي في الوقت، ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باغتسال‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏‏.‏

وكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم، فإذا تيمم لصلاة فريضة قرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها، وإن كان جنبًا‏.‏ ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم، فإنه من جنس اليهود والنصاري، فإن التيمم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره‏)‏‏.‏

وقد تنازع العلماء هل يتيمم قبل الوقت‏؟‏ وهل يتيمم لكل صلاة أو يبطل بخروج الوقت‏؟‏ أو يصلي ما شاء كما يصلي بالماء ولا ينقضه/ إلا ما ينقض الوضوء أو القدرة على استعمال الماء‏؟‏ وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك، فإن ذلك خير‏)‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

وإذا كان عليه نجاسة وليس عنده ما يزيلها به، صلى في الوقت وعليه النجاسة، كما صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثعب دما، ولم يؤخر الصلاة حتى خرج الوقت‏.‏

ومن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا، فقيل‏:‏ يصلي عريانًا‏.‏ وقيل‏:‏ يصلي فيه ويعيد‏.‏ وقيل‏:‏ يصلي فيه ولا يعيد، وهذا أصح أقوال العلماء، فإن الله لم يأمر العبد أن يصلي الفرض مرتين، إلا إذا لم يفعل الواجب الذي يقدر عليه في المرة الأولي، مثل أن يصلي بلا طمأنينة، فعليه أن يعيد الصلاة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من صلى ولم يطمئن أن يعيد الصلاة‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ارجع فصل فإنك لم تصل‏)‏‏.‏

وكذلك من نسي الطهارة وصلى بلا وضوء فعليه أن يعيد، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من توضأ وترك لمعة في قدمه لم يمسها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏

/فأما من فعل ما أمر به ـ بحسب قدرته ـ فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏ ومن كان مستيقظًا في الوقت والماء بعيد منه لا يدركه إلا بعد الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم باتفاق العلماء‏.‏

وكذلك إذا كان البرد شديدًا، ويضره الماء البارد، ولا يمكنه الذهاب إلى الحمام، أو تسخين الماء حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي في الوقت بالتيمم‏.‏ والمرأة والرجل في ذلك سواء، فإذا كانا جنبين ولم يمكنهما الاغتسال حتى يخرج الوقت، فإنهما يصليان في الوقت بالتيمم‏.‏

والمرأة الحائض إذا انقطع دمها في الوقت، ولم يمكنها الاغتسال إلا بعد خروج الوقت، تيممت وصلت في الوقت‏.‏ ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة في الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل‏.‏

وإذا استيقظ آخر وقت الفجر، فإذا اغتسل طلعت الشمس، فجمهور العلماء هنا يقولون‏:‏ يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك‏.‏ وقال في القول الآخر‏:‏ بل يتيمم ـ أيضًا هنا ـ ويصلي قبل طلوع الشمس/ كما تقدم في تلك المسائل؛ لأن الصلاة في الوقت بالتيمم خير من الصلاة بعده بالغسل‏.‏ والصحيح قول الجمهور؛ لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها‏)‏، فالوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، وما قبل ذلك لم يكن وقتًا في حقه‏.‏

وإذا كان كذلك، فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها، بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس، فليس له أن يفوت الصلاة‏.‏ وكذلك من نسي صلاة وذكرها فإنه ـ حينئذ ـ يغتسل ويصلي في أي وقت كان، وهذا هو الوقت في حقه، فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، كما استيقظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ناموا عن الصلاة عام خيبر، فإنه يصلي بالطهارة الكاملة‏.‏ وإن أخرها إلى حين الزوال، فإذا قدر أنه كان جنبًا، فإنه يدخل الحمام ويغتسل وإن أخرها إلى قريب الزوال، ولا يصلي هنا بالتيمم، ويستحب له أن ينتقل عن المكان الذي نام فيه، كما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن المكان الذي ناموا فيه، وقال‏:‏ ‏(‏هذا مكان حضرنا فيه الشيطان‏)‏‏.‏ وقد نص على ذلك أحمد وغيره،وإن صلى فيه جازت صلاته‏.‏

/فإن قيل‏:‏ هذا يسمي قضاء أو أداء‏؟‏

قيل‏:‏ الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي؛ لا أصل له في كلام الله ورسوله، فإن الله تعالى سمي فعل العبادة في وقتها قضاء، كما قال في الجمعة‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏، وقـال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏200‏]‏ مع أن هذين يفعلان في الوقت‏.‏ و‏[‏القضاء‏]‏ في لغة العرب‏:‏ هو إكمال الشيء وإتمامه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، أي أكملهن وأتمهن‏.‏ فمن فعل العبادة كاملة، فقد قضاها، وإن فعلها في وقتها‏.‏

وقد اتفق العلماء ـ فيما أعلم ـ على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء‏.‏ ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته‏.‏

وكل من فعل العبادة في الوقت الذي أمر به أجزأته صلاته، سواء نواها أداء أو قضاء، والجمعة تصح سواء نواها أداء أو قضاء إذا أراد القضاء المذكور في القرآن، والنائم والناسي إذا صليا وقت الذكر والانتباه فقد صليا في الوقت الذي أمرا بالصلاة فيه، وإن كانا قد صليا بعد خروج الوقت المشروع لغيرهما‏.‏ فمن سمي ذلك قضاء باعتبار هذا المعني، وكان في لغته أن القضاء فعل العبادة بعد خروج الوقت المقدر شرعًا /للعموم، فهذه التسمية لا تضر ولا تنفع‏.‏

وبالجملة، فليس لأحد قط شغل يسقط عنه فعل الصلاة في وقتها، بحيث يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار، بل لابد من فعلها في الوقت، لكن يصلي ـ بحسب حاله ـ فما قـدر عليه من فرائضها فعله، ومـا عجز عنه سقط عنـه، ولكن يجوز الجمـع للعـذر بين صـلاتي النهار وبين صـلاتي الليـل، عنـد أكثر العلماء‏:‏ فيجـوز الجمـع للمسافر إذا جد به السير عند مالك والشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه، ولا يجوز في الرواية الأخري عنه وهو قول أبي حنيفة‏.‏

وفعل الصلاة في وقتها أولي من الجمع إذا لم يكن عليه حرج، بخلاف القصر فإن صلاة ركعتين أفضل من صلاة أربع، عند جماهير العلماء‏.‏ فلو صلى المسافر أربعًا فهل تجزئه صلاته‏؟‏ على قولين‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم كان في جميع أسفاره يصلي ركعتين، ولم يصل في السفر أربعًا قط، ولا أبو بكر، ولا عمر‏.‏